الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)
.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ [هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْوُصُولُ إِلَى الْحَلْقِ أَوْ لَا يُعْتَبَرُ؟ وَأَمَّا هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْوُصُولُ إِلَى الْحَلْقِ أَوْ لَا يُعْتَبَرُ؟ فَإِنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ سَبَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي السَّعُوطِ بِاللَّبَنِ وَالْحُقْنَةِ بِهِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَوْضِعِ الشَّكِّ، هَلْ يَصِلُ اللَّبَنُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ أَوْ لَا يَصِلُ؟ .الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ [هَلْ يَصِيرُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ أَبًا لِلْمُرْضَعِ؟ وَأَمَّا هَلْ يَصِيرُ الرَّجُلُ الَّذِي لَهُ اللَّبَنُ (أَعْنِي: زَوْجَ الْمَرْأَةِ) أَبًا لِلْمُرْضَعِ، حَتَّى يُحَرِّمَ بَيْنَهُمَا وَمِنْ قِبَلِهِمَا مَا يُحَرِّمُ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ الَّذِينَ مِنَ النَّسَبِ وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا لَبَنَ الْفَحْلِ؟ ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعَيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: لَبَنُ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الْفَحْلِ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَبِالْقَوْلِ الثَّانِي قَالَتْ عَائِشَةُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ عُمَرَ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَشْهُورِ (أَعْنِي: آيَةَ الرَّضَاعِ). وَحَدِيثُ عَائِشَةَ هُوَ: قَالَتْ: «جَاءَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، وَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّهُ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ، وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ، فَقَالَ: إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَمَالِكٌ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ مَا فِي الْحَدِيثِ شَرْعٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}، وَعَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ» قَالَ: لَبَنُ الْفَحْلِ مُحَرِّمٌ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ آيَةَ الرَّضَاعِ وَقَوْلَهُ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ» إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى جِهَةِ التَّأْصِيلِ لِحُكْمِ الرَّضَاعِ، إِذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ قَالَ: ذَلِكَ الْحَدِيثُ إِنْ عُمِلَ بِمُقْتَضَاهُ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِهَذِهِ الْأُصُولِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُغَيِّرَةَ لِلْحُكْمِ نَاسِخَةٌ، مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ مَذْهَبُهَا التَّحْرِيمَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ، وَهِيَ الرَّاوِيَةُ لِلْحَدِيثِ، وَيَصْعُبُ رَدُّ الْأُصُولِ الْمُنْتَشِرَةِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا التَّأْصِيلُ وَالْبَيَانُ عِنْدَ وَقْتِ الْحَاجَةِ بِالْأَحَادِيثِ النَّادِرَةِ وَبِخَاصَّةٍ الَّتِي تَكُونُ فِي عَيْنٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ لِحَدِيثِ امْرَأَةٍ. .الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ [الشَّهَادَةُ عَلَى الرَّضَاعِ]: وَالَّذِينَ قَالُوا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ: مِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ فُشُوَّ قَوْلِهِمَا بِذَلِكَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ. وَالَّذِينَ أَجَازُوا أَيْضًا شَهَادَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ: مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فُشُوَّ قَوْلِهَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ أَقَلَّ مِنَ اثْنَتَيْنِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: أَمَّا بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَالِاثْنَيْنِ فَاخْتِلَافُهُمْ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ: هَلْ عَدِيلُ كُلِّ رَجُلٍ هُوَ امْرَأَتَانِ فِيمَا لَيْسَ يُمْكِنُ فِيهِ شَهَادَةُ الرَّجُلِ، أَوْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ امْرَأَتَانِ. وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ: فَمُخَالَفَةُ الْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ لِلْأَصْلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنَ الرِّجَالِ أَقَلُّ مِنَ اثْنَيْنِ، وَأَنَّ حَالَ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَضْعَفَ مِنْ حَالِ الرِّجَالِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَحْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ مُسَاوِيَةً لِلرِّجَالِ)، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِشَهَادَةِ وَاحِدَةٍ، وَالْأَمْرُ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ هُوَ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَأَتَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ دَعْهَا عَنْكَ». وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى النَّدْبِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُصُولِ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. .الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ [صِفَةُ الْمُرْضِعَةِ]: وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ يَتَنَاوَلُهَا الْعُمُومُ أَوْ لَا يَتَنَاوَلُهَا، وَلَا لَبَنَ لِلْمَيِّتَةِ إِنْ وُجِدَ لَهَا إِلَّا بِاشْتِرَاكِ الِاسْمِ، وَيَكَادُ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةً غَيْرَ وَاقِعَةٍ فَلَا يَكُونُ لَهَا وُجُودٌ إِلَّا فِي الْقَوْلِ. .الْفَصْلُ الرَّابِعِ فِي مَانِعِ الزِّنَا: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} هَلْ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ أَوْ مَخْرَجَ التَّحْرِيمِ؟ وَهَلِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} إِلَى الزِّنَا أَوْ إِلَى النِّكَاحِ؟ وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ لِحَمْلِ الْآيَةِ عَلَى الذَّمِّ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَوْجَتِهِ إِنَّهَا لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: طَلِّقْهَا، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّهَا. فَقَالَ لَهُ: فَأَمْسِكْهَا». وَقَالَ قَوْمٌ أَيْضًا: إِنَّ الزِّنَا يَفْسَخُ النِّكَاحَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ. وَأَمَّا زَوَاجُ الْمُلَاعَنَةِ مِنْ زَوْجِهَا الْمُلَاعِنِ فَسَنَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ اللِّعَانِ. .الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي مَانِعِ الْعَدَدِ: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْعُبُودِيَّةُ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِ هَذَا الْعَدَدِ كَمَا لَهَا تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِ نِصْفِ الْحَدِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْحُرِّ فِي الزِّنَا، وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ عِنْدَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى تَنْصِيفِ حَدِّهِ فِي الزِّنَا (أَعْنِي: أَنَّ حَدَّهُ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ)، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا فَوْقَ الْأَرْبَعِ: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْخَامِسَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}. وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِغَيْلَانَ لَمَّا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ». وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَجُوزُ تِسْعٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَجَازَ التِّسْعَ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، (أَعْنِي: جَمْعَ الْأَعْدَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}). .الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي مَانِعِ الْجَمْعِ: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} لِعُمُومِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي آخِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ لِأَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ لِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنَ التَّحْرِيمِ إِلَّا مَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهِ، فَيَخْرُجُ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}. مِلْكُ الْيَمِينِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَّا إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، فَيَبْقَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ عَلَّلْنَا ذَلِكَ بِعِلَّةِ الْأُخُوَّةِ أَوْ بِسَبَبٍ مَوْجُودٍ فِيهِمَا. وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا بِالْمَنْعِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِنِكَاحٍ وَالْأُخْرَى بِمِلْكِ يَمِينٍ، فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَوَاتُرِهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا». وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَمَّةَ هَاهُنَا هِيَ كُلُّ أُنْثَى هِيَ أُخْتٌ لِذَكَرٍ لَهُ عَلَيْكَ وِلَادَةٌ، إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ ذَكَرٍ آخَرَ. وَأَنَّ الْخَالَةَ: هِيَ كُلُّ أُنْثَى هِيَ أُخْتٌ لِكُلِّ أُنْثَى لَهَا عَلَيْكَ وِلَادَةٌ، إِمَّا بِنَفْسِهَا، وَإِمَّا بِتَوَسُّطِ أُنْثَى غَيْرِهَا، وَهُنَّ الْحُرَّاتُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، أَمْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ؟ وَالَّذِينَ قَالُوا: هُوَ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ اخْتَلَفُوا أَيُّ عَامٍّ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ وَهُمُ الْأَكْثَرُ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: هُوَ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ فَقَطْ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ مَنْ نُصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ خَاصٌّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مُحَرَّمَةٌ أَوْ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمٍّ أَوْ عَمَّةٍ، وَلَا بَيْنَ ابْنَتِي خَالٍ أَوْ خَالَةٍ، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِ عَمِّهَا أَوْ بِنْتِ عَمَّتِهَا، أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ خَالَتِهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا قُرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ (أَعْنِي: لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى لَمْ يَجُزْ لَهُمَا أَنْ يَتَنَاكَحَا). وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنِ اشْتَرَطَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُعْتَبَرَ هَذَا مِنَ الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا (أَعْنِي: إِذَا جُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى فَلَمْ يَجُزْ لَهُمَا أَنْ يَتَنَاكَحَا، فَهَؤُلَاءِ لَا يَحِلُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا). وَأَمَّا إِنْ جُعِلَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ذَكَرٌ يَحْرُمُ التَّزْوِيجُ، وَلَمْ يَحْرُمْ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ يَجُوزُ، كَالْحَالِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ إِنْ وَضَعْنَا الْبِنْتَ ذَكَرًا لَمْ يَحِلَّ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ مِنْهُ لِأَنَّهَا زَوْجُ أَبِيهِ، وَإِنْ جَعْلَنَا الْمَرْأَةَ ذَكَرًا حَلَّ لَهَا نِكَاحُ ابْنَةِ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا تَكُونُ ابْنَةً لِأَجْنَبِيٍّ، وَهَذَا الْقَانُونُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ، وَأُولَئِكَ يَمْنَعُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ زَوْجِ الرَّجُلِ وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا. .الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي مَوَانِعِ الرِّقِّ: فَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: عَدَمِ الطَّوْلِ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ} الْآيَةَ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} الْآيَةَ. وَذَلِكَ أَنَّ مَفْهُومَ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الْآيَةَ، يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الطَّوْلِ إِلَى الْحُرَّةِ، وَالثَّانِي: خَوْفُ الْعَنَتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ إِنْكَاحَهُنَّ مِنْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، وَاحِدًا كَانَ الْحُرُّ أَوْ غَيْرَ وَاحِدٍ، خَائِفًا لِلْعَنَتْ أَوْ غَيْرَ خَائِفٍ. لَكِنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ أَقْوَى هَاهُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنَ الْعُمُومِ، لِأَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَمْ يُتَعَرَّضْ فِيهِ إِلَى صِفَاتِ الزَّوْجِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ الْأَمْرُ بِإِنْكَاحِهِنَّ وَأَلَّا يُجْبَرْنَ عَلَى النِّكَاحِ، وَهُوَ أَيْضًا مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِرْقَاقِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعَيْنِ مَشْهُورَيْنِ (أَعْنِي: الَّذِينَ لَمْ يُجِيزُوا النِّكَاحَ إِلَّا بِالشَّرْطَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا): أَحَدُهُمَا: .[المسألة الأولى]: إِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ: هَلْ هِيَ طَوْلٌ، أَوْ لَيْسَتْ بِطَوْلٍ؟ .وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ يَجُوزُ لِمَنْ وُجِدَ فِيهِ هَذَانِ الشَّرْطَانِ نِكَاحُ أَكْثَرَ مِنْ أَمَهٍ وَاحِدَةٍ: ثَلَاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ أَوْ ثِنْتَانِ؟ وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اعْتَبَرَ خَوْفَ الْعَنَتِ مَعَ كَوْنِهِ عَزَبًا إِذْ كَانَ الْخَوْفُ عَلَى الْعَزْبِ أَكْثَرَ قَالَ: لَا يَنْكِحُ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَنِ اعْتَبَرَهُ مُطْلَقًا قَالَ: يَنْكِحُ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ إِنَّهُ يَنْكِحُ عَلَى الْحُرَّةِ. وَاعْتِبَارُهُ مُطْلَقًا فِيهِ نَظَرٌ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَى الْحُرَّةِ أَمَةً، فَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْبَقَاءِ مَعَهُ، أَوْ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ؟ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَجَدَ طَوْلًا بِحُرَّةٍ: هَلْ يُفَارِقُ الْأَمَةَ أَمْ لَا؟ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ إِذَا ارْتَفَعَ عَنْهُ خَوْفُ الْعَنَتِ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهَا (أَعْنِي: أَصْحَابَ مَالِكٍ). وَاتَّفَقُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْكِحَ الْمَرْأَةُ مَنْ مَلَكَتْهُ وَإِنَّهَا إِذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ. .الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي مَانِعِ الْكُفْرِ: فَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ سُبِيَا مَعًا (أَعْنِي: الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ) لَمْ يُفْسَخْ نِكَاحُهُمَا، وَإِنْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ السَّبْيُ يَهْدِمُ سُبِيَا مَعًا أَوْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ مَالِكٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّبْيَ لَا يَهْدِمُ النِّكَاحَ أَصْلًا. وَالثَّانِي أَنَّهُ يَهْدِمُ بِإِطْلَاقٍ مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هَلْ يَهْدِمُ أَوْ لَا يَهْدِمُ: هُوَ تَرَدُّدُ الْمُسْتَرَقِّينَ الَّذِينَ أَمِنُوا مِنَ الْقَتْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ الذِّمِّيِّينَ أَهْلِ الْعَهْدِ، وَبَيْنَ الْكَافِرَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، أَوِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مِنْ كَافِرٍ. وَأَمَّا تَفْرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ أَنْ يُسْبَيَا مَعًا، وَبَيْنَ أَنْ يُسْبَى أَحَدُهُمَا فَلِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ عِنْدَهُ فِي الْإِحْلَالِ هُوَ اخْتِلَافُ الدَّارِ بِهِمَا لَا الرِّقُّ، وَالْمُؤَثِّرَ فِي الْإِحْلَالِ عِنْدَ غَيْرِهِ هُوَ الرِّقُّ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ هَلْ هُوَ الرِّقُّ مَعَ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ مَعَ عَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ؟ وَالْأَشْبَهُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلزَّوْجِيَّةِ هَاهُنَا حُرْمَةٌ، لِأَنَّ مَحَلَّ الرِّقِّ. وَهُوَ الْكُفْرُ سَبَبُ الْإِحْلَالِ. وَأَمَّا تَشْبِيهُهَا بِالذِّمِّيَّةِ فَبَعِيدٌ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ إِنَّمَا أَعْطَى الْجِزْيَةَ بِشَرْطِ أَنْ يُقَرَّ عَلَى دِينِهِ فَضْلًا عَنْ نِكَاحِهِ. .الْفَصْلُ التَّاسِعُ فِي مَانِعِ الْإِحْرَامِ: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ النَّقْلِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَمِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ». وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتُ النَّقْلِ خَرَّجَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ. وَعَارَضَهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَنْ مَيْمُونَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ». قَالَ أَبُو عُمَرَ: رُوِيَتْ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ شَتَّى، مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَهُوَ مَوْلَاهَا، وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ. وَرَوَى مَالِكٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَعَ هَذَا أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ». فَمَنْ رَجَّحَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ. وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، بِأَنْ حَمَلَ النَّهْيَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ قَالَ: يَنْكِحُ وَيُنْكِحُ. وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى تَعَارُضِ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ، وَالْوَجْهُ الْجَمْعُ، أَوْ تَغْلِيبُ الْقَوْلِ. .الْفَصْلُ الْعَاشِرُ فِي مَانِعِ الْمَرَضِ: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ النِّكَاحِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ الْهِبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمَرِيضِ إِلَّا مِنَ الثُّلُثِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ. وَلِاخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ: هَلْ يُتَّهَمُ عَلَى إِضْرَارِ الْوَرَثَةِ بِإِدْخَالِ وَارِثٍ زَائِدٍ أَوْ لَا يُتَّهَمُ؟ وَقِيَاسُ النِّكَاحِ عَلَى الْهِبَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ إِذَا حَمَلَهَا الثُّلُثُ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِالنِّكَاحِ هُنَا بِالثُّلُثِ. وَرَدُّ جَوَازِ النِّكَاحِ بِإِدْخَالِ وَارِثٍ قِيَاسٌ مَصْلَحِيٌّ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَكَوْنُهُ يُوجِبُ مَصَالِحَ لَمْ يَعْتَبِرْهَا الشَّرْعُ إِلَّا فِي جِنْسٍ بَعِيدٍ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي يُرَامُ فِيهِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِالْمَصْلَحَةِ، حَتَّى إِنَّ قَوْمًا رَأَوْا أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا الْقَوْلِ شَرْعٌ زَائِدٌ، وَإِعْمَالَ هَذَا الْقِيَاسِ يُوهِنُ مَا فِي الشَّرْعِ مِنَ التَّوْقِيفِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَمَا لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ. وَالتَّوَقُّفُ أَيْضًا عَنِ اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ تَطَرَّقَ لِلنَّاسِ أَنَّ يَتَسَرَّعُوا لِعَدَمِ السُّنَنِ الَّتِي فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ إِلَى الظُّلْمِ، فَلْنُفَوِّضْ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَصَالِحِ إِلَى الْعُلَمَاءِ بِحِكْمَةِ الشَّرَائِعِ الْفُضَلَاءِ الَّذِينَ لَا يُتَّهَمُونَ بِالْحُكْمِ بِهَا، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا فُهِمْ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِظَوَاهِرِ الشَّرَائِعِ تَطَرُّقًا إِلَى الظُّلْمِ، وَوَجْهُ عَمَلِ الْفَاضِلِ الْعَالِمِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَوَاهِدِ الْحَالِ، فَإِنْ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ خَيْرًا لَا يُمْنَعُ النِّكَاحُ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِوَرَثَتِهِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّنَائِعِ يَعْرِضُ فِيهَا لِلصُّنَّاعِ الشَّيْءُ وَضِدُّهُ مِمَّا اكْتَسَبُوا مِنْ قُوَّةِ مِهْنَتِهِمْ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَدَّ فِي ذَلِكَ حَدٌّ مُؤَقَّتٌ صِنَاعِيٌّ، وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ فِي صِنَاعَةِ الطِّبِّ وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّنَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ. .الْفَصْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ فِي مَانِعِ الْعِدَّةِ: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ قَوْلُ الصَّاحِبِ حُجَّةٌ، أَمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؟ وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا رَوَى عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَرَّقَ بَيْنَ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّةَ وَبَيْنَ زَوْجِهَا رَاشِدٍ الثَّقَفِيِّ لَمَّا تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ مِنْ زَوْجٍ ثَانٍ وَقَالَ: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَ الْآخَرُ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الْآخَرِ، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا). قَالَ سَعِيدٌ: وَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا. وَرُبَّمَا عَضَّدُوا هَذَا الْقِيَاسَ بِقِيَاسِ شَبَهٍ ضَعِيفٍ مُخْتَلَفٍ فِي أَصْلِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَدْخَلَ فِي النَّسَبِ شُبْهَةً فَأَشْبَهَ الْمُلَاعِنَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ مُخَالَفَةُ عُمَرَ فِي هَذَا. وَالْأَصْلُ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ مِنَ الْأُمَّةِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ قَضَى بِتَحْرِيمِهَا، وَكَوْنِ الْمَهْرِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا أَنْكَرَهُ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ، وَجَعَلَ الصَّدَاقَ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَمْ يَقْضِ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهَا بِالْعَقْدِ فَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُوطَأُ حَامِلٌ مَسْبِيَّةٌ حكم وطئها حَتَّى تَضَعَ، لِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتَلَفُوا إِنْ وَطِئ هَلْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ الْوَلَدُ أَوْ لَا يَعْتِقُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ مَاؤُهُ مُؤَثِّرٌ فِي خِلْقَتِهِ أَوْ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ؟ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُؤَثِّرٌ كَانَ لَهُ ابْنًا بِجِهَةٍ مَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «كَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَقَدْ غَذَّاهُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ». وَأَمَّا النَّظَرُ فِي مَانِعِ التَّطْلِيقِ ثَلَاثًا، فَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. .الْفَصْلُ الثَّانِيَ عَشَرَ فِي مَانِعِ الزَّوْجِيَّةِ: وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْأَمَةِ إِذَا بِيعَتْ هَلْ يَكُونُ بَيْعُهَا طَلَاقًا؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ طَلَاقٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ حَدِيثِ بَرِيرَةَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يَقْتَضِي الْمَسْبِيَّاتِ وَغَيْرَهُنَّ، وَتَخْيِيرُ بَرِيرَةَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْعُهَا طَلَاقًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْعُهَا طَلَاقًا لَمَا خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَكَانَ نَفْسُ شِرَاءِ عَائِشَةَ لَهَا طَلَاقًا مِنْ زَوْجِهَا. وَالْحُجَّةُ لِلْجُمْهُورِ: مَا خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ يَوْمَ حُنَيْنٍ سَرِيَّةً، فَأَصَابُوا حَيًّا مِنَ الْعَرَبِ يَوْمَ أَوْطَاسَ، فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ وَأَصَابُوا نِسَاءً لَهُنَّ أَزْوَاجٌ، وَكَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَثَّمُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَلْيَقُ بِكِتَابِ الطَّلَاقِ. فَهَذِهِ هِيَ جُمْلَةُ الْأَشْيَاءِ الْمُصَحِّحَةِ لِلْأَنْكِحَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهِيَ كَمَا قُلْنَا رَاجِعَةٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ: صِفَةِ الْعَاقِدِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، وَصِفَةِ الْعَقْدِ، وَصِفَةِ الشُّرُوطِ فِي الْعَقْدِ. وَأَمَّا الْأَنْكِحَةُ الَّتِي انْعَقَدَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ إِذَا كَانَ مِنْهُمَا مَعًا (أَعْنِي: مِنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ)، وَقَدْ كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى مَنْ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُصَحِّحُ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِذَا انْعَقَدَ النِّكَاحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، أَوْ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ. .[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [إِذَا انْعَقَدَ النِّكَاحُ عَلَى اكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ أَوْ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا]: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ: وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَثَرَانِ: أَحَدُهُمَا: مُرْسَلُ مَالِكٍ: «أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَامَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ أَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا». وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى الْأُخْتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ». وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُخَالِفُ لِهَذَا الْأَثَرِ: فَتَشْبِيهُ الْعَقْدِ عَلَى الْأَوَاخِرِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ بَعْدَ الْإِسْلَامِ (أَعْنِي: أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِنَّ فَاسِدٌ فِي الْإِسْلَامِ كَذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ)، وَفِيهِ ضَعْفٌ. .[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْأَخَرِ]: وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ إِسْلَامِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْمَرْأَةِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سَوَاءٌ أَسْلَمَ الرَّجُلُ قَبْلَ الْمَرْأَةِ، أَوِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الرَّجُلِ إِذَا وَقَعَ الْإِسْلَامُ الْمُتَأَخِّرُ فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَ النِّكَاحُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْأَثَرِ وَالْقِيَاسِ: وَذَلِكَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} يَقْتَضِي الْمُفَارَقَةَ عَلَى الْفَوْرِ. وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمُعَارِضُ لِمُقْتَضَى هَذَا الْعُمُومِ: فَمَا رُوِيَ: مِنْ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَسْلَمَ قَبْلَ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ وَهِنْدٌ بِهَا كَافِرَةٌ، فَأَخَذَتْ بِلِحْيَتِهِ، وَقَالَتْ: اقْتُلُوا الشَّيْخَ الضَّالَّ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ بِأَيَّامٍ فَاسْتَقَرَّا عَلَى نِكَاحِهِمَا. وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِلْأَثَرِ: فَلِأَنَّهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُسْلِمَ هِيَ قَبْلَهُ، أَوْ هُوَ قَبْلَهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ مُعْتَبَرَةً فِي إِسْلَامِهَا قَبْلُ فَقَدْ يَجِبُ أَنْ تُعْتَبَرَ فِي إِسْلَامِهِ أَيْضًا قَبْلُ. .الْبَابُ الثَّالِثُ فِي مُوجِبَاتِ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ: فَيَنْعَقِدُ فِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ: .الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي خِيَارِ الْعُيُوبِ: أَحَدُهُمَا: هَلْ يُرَّدُ بِالْعُيُوبِ أَوْ لَا يُرَدُّ؟ وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ يُرَدُّ فَمِنْ أَيِّهَا يُرَدُّ، وَمَا حُكْمُ ذَلِكَ؟ فَأَمَّا الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّ مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ وَأَصْحَابَهُمَا قَالُوا: الْعُيُوبُ تُوجِبُ الْخِيَارَ فِي الرَّدِّ أَوِ الْإِمْسَاكِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا تُوجِبُ خِيَارَ الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: هَلْ قَوْلُ الصَّاحِبِ حُجَّةٌ، وَالْآخَرُ: قِيَاسُ النِّكَاحِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْبَيْعِ؟ فَأَمَّا قَوْلُ الصَّاحِبِ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ: فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: (أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ) وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: (أَوْ قَرَنٌ فَلَهَا صَدَاقُهَا كَامِلًا، وَذَلِكَ غُرْمٌ لِزَوْجِهَا عَلَى وَلِيِّهَا). وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْعِ: فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِمُوجِبِ الْخِيَارِ لِلْعَيْبِ فِي النِّكَاحِ، قَالُوا: النِّكَاحُ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِالْبَيْعِ. وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ: لَيْسَ شَبِيهًا بِالْبَيْعِ لِاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَدُّ النِّكَاحُ بِكُلِّ عَيْبٍ، وَيُرَدُّ بِهِ الْبَيْعُ. وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي فِي الرَّدِّ بِالْعُيُوبِ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الْعُيُوبِ يُرَدُّ بِهَا، وَفِي أَيِّهَا لَا يُرَدُّ، وَفِي حُكْمِ الرَّدِّ؟ فَاتَّفَقَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ يَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ عُيُوبٍ: الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَدَاءِ الْفَرْجِ الَّذِي يَمْنَعُ الْوَطْءَ: إِمَّا قَرَنٌ أَوْ رَتْقٌ فِي الْمَرْأَةِ أَوْ عُنَّةٌ فِي الرَّجُلِ أَوْ خِصَاءٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي أَرْبَعٍ: فِي السَّوَادِ، وَالْقَرَعِ، وَبَخَرِ الْفَرْجِ، وَبَخَرِ الْفَمِ، فَقِيلَ تُرَدُّ بِهَا، وَقِيلَ لَا تُرَدُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ: لَا تُرَدُّ الْمَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ إِلَّا بِعَيْبَيْنِ فَقَطْ: الْقَرَنِ وَالرَّتَقِ. فَأَمَّا أَحْكَامُ الرَّدِّ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِالرَّدِّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الدُّخُولِ طَلَّقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا إِنْ عَلِمَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالْمَسِيسِ. فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ وَلَيُّهَا الَّذِي زَوَّجَهَا مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهَا أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْعَيْبِ مِثْلَ الْأَبِ وَالْأَخِ فَهُوَ غَارٌّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ الزَّوْجُ بِالصَّدَاقِ، وَلَيْسَ يَرْجِعُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالصَّدَاقِ كُلِّهِ إِلَّا رُبُعَ دِينَارٍ فَقَطْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ دَخَلَ لَزِمَهُ الصَّدَاقُ كُلُّهُ بِالْمَسِيسِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى وَلِيٍّ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ تَشْبِيهِ النِّكَاحِ بِالْبَيْعِ، أَوْ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْمَسِيسُ (أَعْنِي: اتِّفَاقَهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ بِنَفْسِ الْمَسِيسِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، وَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا». فَكَانَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ: تَرَدُّدُ هَذَا الْفَسْخِ بَيْنَ حُكْمِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْبُيُوعِ، وَبَيْنَ حُكْمِ الْأَنْكِحَةِ الْمَفْسُوخَةِ (أَعْنِي: بَعْدَ الدُّخُولِ). وَاتَّفَقَ الَّذِينَ قَالُوا بِفَسْخِ نِكَاحِ الْعِنِّينِ أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ حَتَّى يُؤَجَّلَ سَنَةً يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِغَيْرِ عَائِقٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قُصِرَ الرَّدُّ عَلَى هَذِهِ الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ: فَقِيلَ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْعٌ غَيْرُ مُعَلَّلٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى، وَمَحْمَلُ سَائِرِ الْعُيُوبِ عَلَى أَنَّهَا مِمَّا لَا تَخْفَى. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا يُخَافُ سَرَايَتُهَا إِلَى الْأَبْنَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يُرَدُّ بِالسَّوَادِ وَالْقَرَعِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُرَدُّ بِكُلِّ عَيْبٍ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مِمَّا خُفِّيَ عَلَى الزَّوْجِ.
|